يفعل الهوّة الكبيرة في القدرات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، لم تُسلِّم تل أبيب بمعادلة الردع المتبادل، بمفهومه الاستراتيجي أو العملاني، إلا بعد فشل محاولات عدة هدفت إلى تدمير قدرة الحزب على الردّ، أو منعه من الردّ عبر رفع مستوى الكلفة. وهي محاولات أدّت في نهاية المطاف إلى تسليم إسرائيل بمعادلات معاكسة لما كانت تطمح اليه
أجمل رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي اللواء عاموس يادلين العديد من محطات المواجهة بين حزب الله وإسرائيل، إبان احتلال الحزام الأمني وصولاً إلى عدوان 2006، والتي ساهمت في نجاح الحزب بفرض معادلة ردع قيَّدت الجيش الإسرائيلي، ومنحت المقاومة هامشاً أوسع في المواجهة، ما أدى إلى تحرير عام 2000، وصولاً إلى قرار شن الحرب في 2006.
وتناول يادلين، في كلمة في مؤتمر للمعهد حول حرب لبنان الثانية، عناوين عدة تمحورت حول المسار الذي سلكه حزب الله وتمكّن من خلاله من تحقيق أهدافه الردعية، منذ أن تبلور بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، كطرف وحيد يقاوم إسرائيل في المنطقة الأمنية.
في المقابل، قامت إسرائيل بعمليتين كبيرتين عامي 1993 و1996 ضد الحزب الذي برز كتنظيم حرب عصابات محترف ونوعي. لكنهما انتهتا إلى معادلة بات فيها استهداف المقاومة للجنود الإسرائيليين شرعياً، وسمحت لحزب الله بإطلاق الصواريخ على الجليل عندما يستهدف الجيش البيئة المدنية للمقاومة. هكذا استطاع الحزب، رويداً رويداً، أن يحقق الردع بحسب يادلين، مركّزاً صراعه في الحزام الأمني في الأماكن التي لعمله فيها شرعية. وفي الوقت نفسه، قال يادلين، الذي تولى رئاسة الاستخبارات العسكرية (2006-2010)، إن حزب الله ركَّز ردعه أيضاً من خلال العمليات الخارجية، كاستهداف السفارة الإسرائيلية في بيونس ايرس بعد اغتيال أمينه العام السيد عباس الموسوي، واستهداف المركز اليهودي في العاصمة الأرجنتينية في التسعينيات. وهكذا، يؤكِّد يادلين، «صمَّم حزب الله نفسه باعتباره تنظيماً قادراً على أن يقول لدولة إسرائيل بأنها تخضع لقيود خطيرة جداً في المواجهة معه».
وأشار الى أنه بعد تحرير عام 2000، كانت لدى حزب الله ثلاث «ذرائع»: مزارع شبعا، والأسرى المعتقلون، وتحليق الطائرات الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية. وهو شكَّل وحدة خاصة لدعم المقاومة الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية عام 2000. ولفت الى أن عملية مستوطنة متسوفا، التي قُتل خلالها ستة إسرائيليين قرب الحدود اللبنانية في آذار 2002، كانت ترجمة لهذا الدعم، وإدراكاً من الحزب بأن إسرائيل غير قادرة على فتح جبهة ثانية في وقت تخوض مواجهة في الداخل الفلسطيني، الأمر الذي عزَّز مفهوم حزب الله بأن إسرائيل كانت مردوعة.
وأوضح يادلين أنه كانت هناك رهانات اسرائيلية بأن التطورات الإقليمية والدولية ستؤدي إلى إضعاف حزب الله وكبحه. ومن المحطات الأساسية التي عزّزت هذه الرهانات قبل أن يتبيّن لاحقاً فشلها: أحداث 11 أيلول وما تبعها من إعلان واشنطن الحرب على الإرهاب؛ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003؛ والقرار 1559 الذي كان يدعو إلى نزع سلاح حزب الله تحت عنوان «حل كل الميليشيات». وأوضح انه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان، «بدا في حينه أن حزب الله ضعف في مقابل تصاعد نفوذ القوى الموالية للغرب، ما أعطى انطباعاً في إسرائيل بأن الأمور تتطور إلى الجانب الصحيح، وأن حزب الله سيتفكك تلقائياً»، مذكَّراً بمقولة رئيس اركان الجيش السابق موشيه يعلون (2002-2005) بأن صواريخ الحزب ستصدأ. لكن في الواقع، بحسب يادلين، العكس هو ما حصل، وبدلاً من أن يضعف الحزب تعزّزت قوته أكثر وحصل من دون قيد على الصواريخ البعيدة المدى من الرئيس بشار الأسد.
وخلص يادلين الى أن لبنان جرح عميق في إسرائيل، وتحديداً بعدما مرت سنوات قاسية نتيجة حرب عصابات نوعية شنها حزب الله (خلال احتلال الحزام الامني). وقيادة الجيش في تل أبيب تعرف الحزب جيداً، وأيقنت بأن الدخول البري إلى لبنان سيكون باهظ الثمن من دون إنجازات واضحة، وبالتالي ما من داع للعودة إلى هذا البلد. ولخص يادلين التقدير الذي كانت تل ابيب تتبنّاه، بالقول: «كان هناك شعور بأن عامل الزمن يعمل لصالحنا. فنحن نمتلك قوة أكبر بكثير وقدرة أكبر على التحمل والتسلح أكثر، وأن تنظيماً صغيراً مثل حزب الله سيصل في النهاية إلى نقطة انكسار. لكن الوضع لم يكن كذلك».